المصدر: جيوپوليتيكال إنتيليجنس سيرفيسِز
ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات
من حلفاء إلى أعداء
لم يكن التوتر الحالي بين أنقرة وتل أبيب الوضع السائد في علاقاتهما دائمًا؛ فعلى مدى قرون لجأ اليهود الفارون من الاضطهاد في أوروبا إلى الإمبراطورية العثمانية. واستمر هذا التاريخ من التعايش حتى العصر الحديث، عندما أصبحت الجمهورية التركية عام 1949 أول دولة ذات أغلبية مسلمة تعترف بدولة "إسرائيل". كما تعتبر تركيا "أقدم صديق لإسرائيل في الجوار"، وفي ذروة علاقتهما في التسعينيات أقام الطرفان شراكة ذات منفعة متبادلة، امتدت إلى ما هو أبعد من الدبلوماسية لتشمل التعاون العسكري والدفاعي والاستخباراتي، لكن القضية الفلسطينية ظلت نقطة الضعف التي تشوب هذه العلاقة، ما أدى في النهاية إلى تراجعها.
حتى قبل فترة وجيزة، فإن عمق الثقة المتبادلة مكّن تركيا من العمل كوسيط بين "إسرائيل" وسوريا، وساعد في تسهيل المناقشات حول سيناريوهات تبادل الأراضي المحتملة التي تشمل مرتفعات الجولان. لكن هذا الجهد انتهى فجأة أواخر عام 2008 عندما شنت "إسرائيل" عملية "الرصاص المصبوب" على غزة. ولم يُعطَ أي تحذير مسبق عن هذه الضربة لرئيس الوزراء التركي آنذاك، رجب طيب أردوغان، الذي كان قد استضاف للتو نظيره "الإسرائيلي"، إيهود أولمرت، في أنقرة؛ حيث اعتبر "أردوغان" هذه الخطوة "طعنة في الظهر"، وبالتالي شكلت الحادثة بداية تدهور مستمر في العلاقات، وسرعان ما تصاعدت التوترات.
ورغم محاولات التقارب، ومنها اجتماع أيلول/ سبتمبر 2023 بين "أردوغان" ورئيس الوزراء "الإسرائيلي"، بنيامين نتنياهو، في نيويورك، إلا أن كلا الحكومتين لا زالتا تتمسكان بروايتيهما الخاصة، وتتبادلان اللوم على القطيعة، وتتبنيان استراتيجيات إقليمية غالبًا ما تضعهما في مأزق متعارض. وفي خضم هذا، استغل "أردوغان" و"نتنياهو"، وكلاهما سياسيان مخضرمان، الخلاف الثنائي بمهارة لتحقيق مكاسب سياسية محلية.
في الوقت نفسه، ساهمت "إسرائيل" في التباعد الثنائي من خلال مواءمتها مع خصوم تركيا الإقليميين؛ فقد عززت علاقاتها السياسية مع قبرص واليونان، ووضعت أطرًا لمشاريع الطاقة والتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، وامتدت هذه الجهود إلى مجالات أخرى، بما فيها التعاون الدفاعي والدبلوماسي. كما بدأت "إسرائيل" باستغلال نفوذها في واشنطن لعرقلة طموحات أنقرة في مجال المشتريات الدفاعية، والضغط ضد بيع أنظمة الأسلحة الأمريكية المتطورة. وفي ظل تصاعد عدوان "إسرائيل" الإقليمي، وعدم ظهور أي بوادر حل لصراعها المستمر في غزة، أعلن وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، قرار تركيا بقطع العلاقات الاقتصادية والتجارية معها في آب/ أغسطس 2025 الماضي.
إعادة تقييم العلاقات واستكشاف سوريا
وبتخليهما عن نهج التعاون الذي ساد في التسعينيات، رسّخت كل من تركيا و"إسرائيل" انعدام الثقة بينهما، وهذا ما مهّد الطريق للديناميكية التنافسية التي تُحدّد علاقتهما الآن، ويتجلى هذا الصراع على السيطرة واضحًا في سوريا. فمن جهتها، تُفضّل أنقرة دولة مركزية موحدة تُدمج فيها قوات سوريا الديمقراطية "قسد" بقيادة الأكراد، والمرتبطة بحزب العمال الكردستاني المحظور (PKK)، في الحكومة المركزية. ويمثل هذا أهمية خاصة لأنقرة، لا سيما بعد أن أعلن "العمال الكردستاني" استعداده للحلّ، وهو ما يقول المسؤولون الأتراك إنه سيتطلب من جميع فروعه، بما في ذلك "قسد"، أن تحذو حذوه، وهي نتيجة ما زالت بعيدة المنال حتى الآن. ويمكن النظر إلى الدعم التركي لبناء القدرات المؤسسية لسوريا، من خلال التعاون العسكري والدفاعي على سبيل المثال، في هذا السياق كعنصر أساسي في استراتيجية تهدف إلى تمكين الحكومة المركزية.
بالمقابل، تريد "إسرائيل" سوريا أضعف وأكثر لامركزية؛ حيث يمكنها بناء علاقات مع الأقليات داخل النسيج الاجتماعي المتشرذم في البلاد، وهذا من شأنه أن يخدم ثلاثة أهداف في آن واحد: توسيع نفوذ "إسرائيل"، وخلق ثقل موازن لحكومة الشرع (التي تتكون من عناصر لا تثق بها إسرائيل)، وإضعاف نفوذ تركيا. ولتحقيق هذه الغاية، وبينما تدعم "إسرائيل" الطائفة الدرزية بقوة، فإنها تتودد أيضًا إلى "قسد" في الشمال، معتبرةً إياهم "حليفًا طبيعيًا"، وهي خطوة أثارت غضب أنقرة.
بالتالي، فإن منطق المحصلة الصفرية واضح؛ حتى إن لجنة بتكليف من الحكومة "الإسرائيلية" حذرت من تزايد نفوذ تركيا في سوريا وحثت على الاستعداد لصراع محتمل. بالمقابل، تنعكس مخاوف مماثلة على الجانب التركي، ما يلقي الضوء نفسه على طموحات "إسرائيل" الإقليمية. بهذه الطريقة، أصبح الشك المتبادل معززًا لذاته بشكل خطير، ما دفع التنافس إلى سيناريوهات خيالية بعيدة المنال وجعل من الضروري "تمييز ما هو واقعي".
إعادة ترتيب المواقف الإقليمية
يأتي اتساع الخلاف بين "إسرائيل" وتركيا في وقت تشهد فيه المواقف الإقليمية في الشرق الأوسط تغيرات جوهرية؛ حيث تبرز ديناميكيتان: نهاية عهد "الأسد" في سوريا التي يرى كثيرون أنها أتاحت لتركيا مساحة لتوسيع نفوذها، وتزايد قوة "إسرائيل" العسكرية منذ السابع من أكتوبر 2023، ما عزز تصورات قوة ردعها. ومن هنا، فإن تقارب هذه الاتجاهات، على خلفية انعدام ثقة غير مسبوق بين أنقرة وتل أبيب، يخلق مزيجًا متقلبًا للغاية.
فقد أثارت قوة "إسرائيل" العسكرية غير المنضبطة في غزة وخارجها، خصوصًا في الشعور المتزايد بالإفلات من العقاب، قلقًا ليس فقط في تركيا بل أيضًا في مصر والسعودية ودول الخليج الأخرى، كما زادت من المخاوف بشأن نزعات الهيمنة "الإسرائيلية". وكان قيام "إسرائيل" بشن غارة جوية، أوائل أيلول/ سبتمبر، استهدفت مقر قيادة حماس في العاصمة القطرية الدوحة، جزءًا من حملة أوسع من الضربات "الإسرائيلية" التي تجاوزت حدودها المباشرة. ومن المفارقات أن تصرفات "إسرائيل" خلقت، دون قصد، بيئةً من التقارب المتزايد بين تركيا والعالم العربي، ما أتاح لأنقرة فرصةً للخروج من عزلتها التي فرضتها على نفسها بعد الربيع العربي. ويتجلى هذا التوافق واضحًا في سوريا؛ حيث تعمل تركيا وعدة دول عربية على دعم النظام الجديد، وكذلك في دعمها المشترك للفلسطينيين، وجهودها المتجددة نحو حل الدولتين، الذي ترفضه "إسرائيل" رفضًا قاطعًا رغم تزايد الدعم الدولي له.
السيناريوهات
لقد انقضت أيام مجد العلاقات "الإسرائيلية" التركية في التسعينيات، وسيبقى ثقل القضية الفلسطينية ثابتًا، على الأقل حتى يتم التوصل إلى حل الدولتين ذي مصداقية. ومع ذلك، فإن "إسرائيل" وتركيا ليستا غريبتين على بعضهما البعض؛ حيث تشتركان في ذاكرة مؤسسية لفترات تعاون مثمرة للطرفين، وقد تعلمتا كيفية إدارة خلافاتهما، إن لم يكن حلها. وفي ظل هذه الخلفية، تبرز ثلاثة سيناريوهات للمسار المستقبلي للعلاقات "الإسرائيلية" التركية:
· السيناريو الأول (غير مرجح): تحقيق انفراجة وإحياء روح التعاون: يتوقع هذا السيناريو الأكثر تفاؤلًا إعادة ضبط العلاقات مع توطيد العلاقات واستئناف التعاون، لكن هذا يبقى مستبعدًا نظرًا لعدم توفر الظروف لمثل هذا التحول اليوم. فمسار "إسرائيل" في غزة وشكوكها العميقة تجاه الحكومة التركية الحالية من جهة، إضافةً إلى الدعم التركي القوي للفلسطينيين والمخاوف الجسيمة بشأن طموحات "إسرائيل" الإقليمية من جهة أخرى، لا يتركان مجالًا كبيرًا للتقارب. ولا يمكن تغيير هذه الحسابات إلا بسلسلة من الاضطرابات الإيجابية الكبرى، والتي لا يُتوقع حدوث أي منها في الوقت الحالي.
· السيناريو الثاني (مستبعد): صراع ساخن: هذا السيناريو هو الأكثر قتامة؛ ورغم استبعاده ينبغي أخذه على محمل الجد، وتجنبه بأي ثمن؛ فتركيا ليست مهتمة بالصراع مع "إسرائيل"، حيث تركز استراتيجيتها على ردع "إسرائيل" واحتوائها وليس على المواجهة المسلحة. وفي الوقت الذي تركّز فيه أنقرة على إصلاح علاقاتها مع واشنطن، وإعادة بناء علاقاتها مع شركائها العرب، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، فإن إثارة صراع مع "إسرائيل" يتعارض مع مصالحها. بدلًا من ذلك، من المرجح أن تتبع تركيا مسارين متوازيين؛ أولهما إقناع واشنطن باستعدادها وقدرتها على لعب دور بناء في منطقتها وخارجها، والثاني الاستفادة من تنامي القلق العربي من تصرفات "إسرائيل" لتعزيز شراكاتها كقوة موازنة.
من جانبها، لا تسعى "إسرائيل" كذلك إلى صراع مع تركيا؛ فرغم قوتها العسكرية إلا أنها تواجه ضغوطًا على جبهات متعددة، على رأسها العزلة الدولية، إضافةً إلى مشاكل التجنيد في عملياتها العسكرية، وتصاعد المشاعر المعادية للحرب. وعليه، فإن أولوياتها تتمثل في الحفاظ على خطوطها الحمراء في سوريا وإدارة تنافسها مع تركيا، دون إثارة تصعيد لا يمكن السيطرة عليه.
وأخيرًا، من المتوقع أن تقف واشنطن حاجزًا ضد خطر المواجهة المباشرة بين أقرب حلفائها في الشرق الأوسط وعضو بارز في حلف "الناتو".
· السيناريو الثالث (الأرجح): تنافس مُدار من خلال مناورات دبلوماسية وخطابات حادة: هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحًا، ويتمثل في إدارة التنافس بعيدًا عن الصراع المباشر؛ حيث تتخذ كل من أنقرة وتل أبيب الاحتياطات اللازمة لمنع الصدام، بالاعتماد على الدبلوماسية الصامتة والقنوات الاستخباراتية الخلفية عند الضرورة. لكن الطرفين سيتنافسان بشراسة في ساحات مثل سوريا، وسينخرطان في تبادلات خطابية ودبلوماسية حادة. وستظل القضايا الجوهرية التي تُفرّق بينهما، من القضية الفلسطينية إلى تنافسهما على نفوذ أوسع في سوريا وخارجها، تُشكّل تحديًا، ما يضمن استمرار الديناميكيات السلبية في التأثير بشدة على العلاقة. وما يمكن توقعه من هذا السيناريو هو نمط من المناورة المستمرة والخطاب الحاد، مع احتواء ذلك في ظل جهود براجماتية لتجنب أي تصعيد خارج عن السيطرة.